فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:

رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ بَنَى دَارًا، وَلَمْ يَسْكُنْهَا، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَبْنِ بِهَا، أَوْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ. قَالَ: فَلَقِيَ الْعَدُوَّ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنِّي مَأْمُورٌ فَاحْبِسْهَا حَتَّى تَقْضِيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعُوا الْغَنَائِمَ فَلَمْ تَأْكُلْهَا النَّارُ.
قَالَ: «وَكَانُوا إذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إنَّكُمْ غَلَلْتُمْ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَبَايَعُوهُ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ أَصْحَابَك قَدْ غَلُّوا فَأْتِنِي بِهِمْ فَلْيُبَايِعُونِي، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ، فَقَالَ لَهُمَا: إنَّكُمَا قَدْ غَلَلْتُمَا، فَقَالَا: أَجَلْ، قَدْ غَلَلْنَا صُورَةَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَاءَا بِهَا، فَطُرِحَتْ فِي الْغَنَائِمِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّارَ فَأَكَلَتْهَا».
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا الْغَنَائِمَ رَحْمَةً رَحِمَنَا بِهَا، وَتَخْفِيفًا خَفَّفَ عَنَّا لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَعْفِنَا.
قَالَ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجْهَ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَفَائِدَةَ مَا فِيهَا مِنْ حِكْمَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مِنْ أَفْضَلِ وُجُوهِ الْكَسْبِ، وَهِيَ جِهَةُ الْقَهْرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ، مِنْ قَبْلِكُمْ كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ} إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا.

.المسألة الثَّانِيَةُ: [في ذكر اختلاف النَّاسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ السَّابِقِ]:

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ اللَّهِ السَّابِقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: سَبَقَ مِنْ اللَّهِ أَلَّا يُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ.
الثَّانِي: سَبَقَ مِنْهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ وَمُحَمَّدٌ فِيهِمْ.
الثَّالِثُ: سَبَقَ مِنْهُ إحْلَالُ الْغَنَائِمِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ اسْتَعْجَلُوا قَبْلَ الْإِحْلَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُمْكِنٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ أَقْوَاهُ مَا سَبَقَ مِنْ إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ كَانُوا غَنِمُوا أَوَّلَ غَنِيمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ حِينَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ إلَى نَخْلَةٍ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَيَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا، فَمَضَى وَمَضَى أَصْحَابُهُ مَعَهُ، حَتَّى نَزَلُوا بِنَخْلَةٍ، فَمَرَّتْ عَلَيْهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَيْتًا وَأُدْمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ؛ فَقُتِلَ عَمْرٌو، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسْرَى حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ، وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ؛ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْخُمُسَ، فَأَكَلُوا الْغَنِيمَةَ، وَنَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضُ الْغَنِيمَةِ، كَمَا كَانَ فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مِنْ الْخُمُسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ.
وَاَلَّذِي ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ أَكْلُهُمْ الْغَنِيمَةَ الَّتِي غَنِمُوا، وَإِحْلَالُ مَا أَخَذَ لَهُمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ عَنْ ذَلِكَ مُجِيزٌ لَهُ؛ فَكَانَ وَحْيًا بِسُكُوتِهِ وَإِمْضَائِهِ.

.المسألة الثالثة: قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ}:

فِي إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ لَعُذِّبْتُمْ بِمَا اقْتَحَمْتُمْ فِيهَا مِمَّا لَيْسَ لَكُمْ اقْتِحَامُهُ إلَّا بِشَرْعٍ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا اقْتَحَمَ مَا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَلَالٌ إنَّهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ كَالصَّائِمِ إذَا قَالَ: هَذَا يَوْمُ نَوْبِي فَأُفْطِرُ الْآنَ.
أَوْ هَذَا يَوْمُ حَيْضِي فَأُفْطِرُ فَفَعَلَا ذَلِكَ.
وَكَأَنَّ النَّوْبَ وَالْحَيْضَ الْمُوجِبَانِ لِلْفِطْرِ؛ فَفِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى.
وَلَنَا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عُمْدَةٌ؛ فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ سَاقِطَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَصَادَفَ الْهَتْكُ مَحَلًّا لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَدَ وَطْءَ امْرَأَةٍ قَدْ زُفَّتْ إلَيْهِ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجِهِ فَإِذَا هِيَ زَوْجُهُ.
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَنَّ طُرُوءَ الْإِبَاحَةِ لَا يَنْتَصِبُ عُذْرًا فِي عُقُوبَةِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الْهَتْكِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ثُمَّ نَكَحَهَا، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِلْمِنَا قَدْ اسْتَوَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّحْرِيمِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا اخْتَلَفَ عِلْمُنَا وَعِلْمُ اللَّهِ، فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ فِي إسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ، كَمَا قَالَ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ}.

.المسألة الرابعة: [في فضل عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ]:

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «لَوْ نَزَلَتْ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ لَأَحْرَقَتْنَا إلَّا عُمَرَ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنْ السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، لِقَوْلِهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُك».
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ».

.المسألة الْخَامِسَةُ: [في أن الْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ وَاجِبٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ]:

فِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ وَاجِبٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إذَا قَوِيَ الْمُسْلِمُونَ جَازَ الْفِدَاءُ؛ لِلْقُوَّةِ عَلَى الْعِدَّةِ لِقِتَالِهِمْ أَيْضًا، فَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَنْظَرُ وَالْأَوْكَدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.المسألة السَّادِسَةُ: [في تأخير قتل الأسرى]:

فَإِنْ قِيلَ: تَحَقَّقَ لَنَا مَعْصِيَتُهُمْ.
قُلْنَا: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: إسْرَاعُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْلَالِ.
الثَّانِي: اخْتِيَارُهُمْ الْفِدَاءَ قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْقَتْلِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ لَهُمْ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} فَأُمِرُوا بِالْقَتْلِ فَاخْتَارُوا الْفِدَاءَ.
قُلْنَا: أَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُبَرِّرَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بَعْدَهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِمُحْتَمَلٍ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهُمَا؛ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَهُمْ فِيهِ؛ فَمَالُوا إلَى الْفِدَاءِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْفَتِهِمْ بِالْكُفَّارِ مَعَ إغْلَاظِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ وَالْإِخْرَاجِ، وَإِلَى تَحْقِيقِ الْمَعْصِيَةِ إلَى تَأْخِيرِهِمْ الْقَتْلَ حَتَّى نَزَلَ الْعَفْوُ.
فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ:

.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: [في توقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأسرى]:

فَقَدْ اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَعَهُمْ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ذَنْبًا مِنْهُ قُلْنَا: كَذَلِكَ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ، فَقَالَ: إنَّهُ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيهِ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، إنَّمَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَقُّفٌ وَانْتِظَارٌ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ لِيَفُوتَ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا الصَّنَادِيدَ، وَأَثْخَنُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْتَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ ذَلِكَ كَافٍ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدَ الْإِنْصَافِ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}
الفاء تؤذن بتفريع هذا الكلام على ما قبله.
وفي هذا التفريع وجهان:
أحدهما: الذي جرى عليه كلام المفسّرين أنّه تفريع على قوله: {لولا كتاب من الله سبق} [الأنفال: 68]. إلخ.
أي لولا ما سبق من حلّ الغنائم لكم لمسّكم عذاب عظيم، وإذ قد سبق الحلّ فلا تبعة عليكم في الانتفاع بمال الفداء.
وقد روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} [الأنفال: 67] الآية، أمسكوا عن الانتفاع بمال الفداء، فنزل قوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالًا طيبا} وعلى هذا الوجه قد سمّي مال الفداء غنيمة تسمية بالاسم اللغوي دون الاسم الشرعي؛ لأنّ الغنيمة في اصطلاح الشرع هي ما افتكّه المسلمون من مال العدوّ بالإيجاف عليهم.
والوجه الثاني: يظهر لي أنّ التفريع ناشيء على التحذير من العود إلى مثل ذلك في المستقبل، وأنّ المعنى: فاكتفوا بما تغنمونه ولا تفادوا الأسرى إلى أن تثخنوا في الأرض.
وهذا هو المناسب لإطلاق اسم الغنيمة هنا إذ لا ينبغي صرفه عن معناه الشرعي.
ولمّا تضمّن قوله: {لولا كتاب من الله سبق} [الأنفال: 68] امتنانًا عليهم بأنّه صرف عنهم بأس العدوّ، فرّع على الامتنان الإذن لهم بأن ينتفعوا بمال الفداء في مصالحهم، ويتوسّعوا به في نفقاتهم، دون نكد ولا غصّة، فإنّهم استغنوا به مع الأمن من ضرّ العدوّ بفضل الله.
فتلك نعمة لم يشُبها أذى.
وعبّر عن الانتفاع الهنيء بالأكل: لأنّ الأكل أقوى كيفيّات الانتفاع بالشيء، فإنّ الآكِل ينعم بلذاذة المأكول وبدَفْع ألم الجوع عن نفسه ودفع الألم لذاذة ويكسبه الأكلُ قوة وصحّة والصحة مع القوّة لذاذة أيضًا.
والأمر في {كلوا} مستعمل في المنّة ولا يحمل على الإباحة هنا: لأنّ إباحة المغانم مقرّرة من قبله يوم بدر، وليكون قوله: {حلالًا} حالًا مؤسسّة لا مؤكّدة لمعنى الإباحة.
و{غنمتم} بمعنى فاديتم لأنّ الفداء عوض عن الأسرى والأسرى من المغانم.
والطيب: النفيس في نوعه، أي حلالًا من خير الحلال.
وذُيّل ذلك بالأمر بالتقوى: لأنّ التقوى شكر الله على ما أنعم من دفع العذاب عنهم.
وجملة: {إن الله غفور رحيم} تعليل للأمر بالتقوى، وتنبيه على أنّ التقوى شكر على النعمة، فحرف التأكيد للاهتمام، وهو مغن غَناء فاء التفريع، كقول بشار:
إنّ ذاك النجاح في التبكير

وقد تقدّم ذكره غير مرة.
وهذه القضية إحدى قضايا جاء فيها القرآن مؤيّدًا لرأي عمر بن الخطاب.
فقد روى مسلمٌ عن عمر، قال: «وافقتُ ربّي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر». اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)} أي إياكم أن تنفقوا ما غنمتموه بسفاهة في أي شيء لا لزوم له، بل اتقوا الله فيما أعطاكم ومنحكم من غنائم. سواء كانت منقولات أم مالا أم أسرى تجعلونهم يقومون بأعمال يعود نفعها وعائدها إليكم. اتقوا الله في كل هذا ولا تنفقوه بحماقة، وقوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي أن الله تعالى قد غفر لكم ما فعلتم قبل أن تنزل هذه الآية الكريمة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}
هذا حكم آخر من أحكام الجهاد.
ومعنى {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ} ما صح له وما استقام، وقرأ أبو عمرو، وسهيل ويعقوب، ويزيد، والمفضل، أن تكون بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية، وقرأ أيضًا يزيد والمفضل {أسارى} وقرأ الباقون {أسرى} والأسرى جمع أسير، مثل قتلى وقتيل، وجرحى وجريح، ويقال في جمع أسير أيضًا أسارى بضم الهمزة وبفتحها، وهو مأخوذ من الأسر، وهو القيد، لأنهم كانوا يشدّون به الأسير، فسمي كل أخيذ وإن لم يشدّ بالقدّ أسيرًا، قال الأعشى:
وقيدني الشعر في بيته ** كما قيدت الأسرات الحمارا

وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطًا.
والإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه؛ تقول العرب: أثخن فلان في هذا الأمر، أي بالغ فيه.
فالمعنى: ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك.